Wednesday, December 30, 2009

الـمديـنـة الأخـرى الـتـي اخـتـطـفَـتـنـي


تقول لي أمي أنني و أنا رضيعة كنتُ أتأمَّل كفِّي أكثر من أخواتي . أتأمَّلها كثيراً و أقلِّبها و كأنني أعلِّم نفسي كم الأشياء التي يمكنني أن أفعلها بها .

***

أركب الترام من محطة الرمل ، و أجلس ، و تتحرَّك الترام ، و تترك المحطة ، و لا يركب العربة سواي و فتاة تجلس قبالتي ، و آخريات .
" ليه الترام مشيت و لسة مافيش ناس راكبة ؟ "
و فتحت الفتاة التي أمامي حواراً . و بدأت في السرد بحماس . و أنا لا أركِّز في كلمة واحدة تقولها . لكنني أحببتها ، و بثـَّت فيَّ روحاً طيبة كانت تشبه صديقة من القريبات إلي قلبي . و أوهمتها أنني أستمع لها . و هي تحكي و تضحك و تعلِّق و تقذف بالتعليقات التي تضحكني من قلبي بحق .

***

فاتتني محطتي . و رأيتُ أن الترام لم يركبها أحد . فقط أنا و الفتاة . و توجَّهت بنا إلي مكان لا أعرفه . مدينة أخرى غير مدينتي . مدينة أكثر هدوءاً و تنسيقاً .

خفتُ ...

تأخَّرتُ كثيراً . كنتُ على موعد معه . الرجل الذي أحب . سيقلق عليَّ و ستتلخبط أحواله . صحتُ من النافذة في المدينة الأخرى التي اختطفتني " ليه دايماً يحصل كدة أيام إمتحاناتهم ؟ لــــــيـــــه ؟ "

و الترام تمر من نفق حجري رمادي اللون ، نبت الزرع بين قطع الحجارة . كانت الرائحة رائعة . لكنني تأخَّرتُ عليه . عليَّ أن أعود . و أنا على وشك النهوض ، أمسكت الفتاة بمعصمي بقوة . و أشدَّت قبضتها عليه بشكل لا يتناسب مع حجم كفها الصغير . و بـِحـِس مـُطـَمـئـن قالت و هي تنظر لأعلى :
" شــشــشــشــشــشــشــش.... سامعة ؟ "
سمعت صوت احتكاك . و بدأ الصوت يعلو و يتحوَّل إلى صرير ... نظرتُ جيداً أمامي ، رأيتُ أن عربة الترام التي نحن بها تمر من نفق ضيق ، أضيق من أن يسعها ، و بدأت العربة تضيق بفعل احتكاكها بجدران النفق ...

لم تترك الفتاة معصمي بعد ، شعرتُ بخاتم في يدها يؤلمني . نظرتُ وجدته الخاتم الجعران الذي دائماً أرتديه أنا و لا أخلعه أبداً .

"محدِّش ياخد مني حاجة بقى . أنا اإتأخـَّرت... محدِّش ياخد مني الخاتم ، أنا اتأخَّرت " ... أصيح في الفتاة التي سرقت خاتمي .

و أخذتُ الخاتم من اصبعها و لبسته و نزلتُ من الترام . و لم أرى الفتاة مرة أخرى .

***

كانت الترام قد توقـَّفت داخل النفق الضيق . و أنا أسير في ظلامه . ثم بدأ النور يظهر و وجدتُ نفسي في ممر ضيق كان موجوداً في جامعتي القديمة . سعدتُ جداً ، و بدأت في رؤية أوجه مألوفة . و رأيتُ وجهي أيضاً في أحد النوافذ و رأيتُ أن أنفي لم تعد أنفي . أصبحت أنفه هو هي التي في وجهي .

" يا سلام؟ للدرجة دي؟ كل مرة يعني تحلمي الحلم دة ؟ " قلت لنفسي .

و رأيته يقف مع بعض الناس حوله . أسرعتُ نحوه ، و أردتُ أن أبرر تأخيري و أردتُ أن أحكي له عن مغامرتي . لكنه لم يحتفي بي ، فقط نظر لي و أفسح لي المجال لأقف بجواره ، و كأنني ذهبتُ لشراء شيئاً .. و ها أنا قد عدتُ .

استندتُ بجواره إلى الجدار . منتظرة إياه أن ينتهي من حديثه مع هؤلاء الآخرين الذين لا أعرف أحداً منهم . و أمسكتُ بيده بقوة بين كفيَّ ... و كانت تلك لفتة مستحيل أن أفعلها أمام ناس لا أعرفهم ، و داخل الجامعة . ثم رأيتُ يده تتحوَّل في يدي إلى كف أبي - بأصابعه الممتلئة القصيرة ، و بتلك العلامة التي على ظهر يده من حروق الشمس و القيادة في الخليج .

قبَّلتُ يده ، و ممدتُ يدي نحو أنفي وجدتها لم تزل أنفه ...

"مش جميلة ... هية بس إيد إبويا "

***

ما القصة معي و مع الأكف و الأصابع ؟ ليست هذة أول مرة أن أحلم بالأنوف ... لكنها أول مرة أبوح بقصة كف أبي الذي يأتيني في أحلامي مرات و مرات ... في أشكال مختلفة . و مع ناس آخرون .

استيقظتُ من حلم نصف النهار و أنا لدي فقط القدرة التي تكفيني كي أعِد لنفسي كوب شاي بالحليب ، و أجلس لأرسم العمارات المتراصَّة بجوار بعضها ، على أسطحها تهفهف قطع الغسيل المنشورة ، و " أرايـِل" التليفزيون و خزَّانات المياة ، و خيوط الزينة التي تشبه زينة رمضان .

" منين جالك الصبر دة ؟ " تسألني أمي و هي تمر بجواري . أبتسمتُ و رددتُ بيني و بيني . منذ رأيتُ الأيدي الممدودة إليَّ من كل ناحية ، و بطرق أخرى غير المعتادة و غير المرئية ... تعلَّمتُ أن أستخدم يدي .

لعل أحدهم يحلم بكفه تحوَّل إلى كفي ذو خاتم الجعران . أو ينظر أحدهم في المرآه و يرى حاجبيَّ الغير متساويين في وجهه . أو يرى أسناني غير متراصَّة في ضحكته .

"مش جميلة ... هي بس مناخيره "